سفرٌ الى بوابة المُطلق

الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر

رئيسة مجلس الفكر

~
أنور سلمان،
إلتزَمْتَ بالقصيدة التي تجمع بين الاصالة والحداثة وجمالية الأسلوب، وقلت في هذا السياق: "كلّ محاولة تدّعي الشعر، خارج التفعيلة والوزن، هي ليست شعراً، فلا شعر بلا موسيقى".
أيّها الشاعر،
من يكتبُ القصيدة يسكنُ البرق ويغدو قلب الأبديّة، كما يقول René Char. هو الشعر يعانق سرّ الحياة، وسحر الرؤيا وألخيميائيّة التحوّلات. هو الشعر غموض متشهّب وسعي دؤوب نحو الحقيقة وكُنْه الأشياء. في معمعة العولمة، تشظّى الإنسان باللاّثبات والاغراءات القامعة لقناعته بعد أن أغشت بصره وبصيرته! وحده الشعر أعاد الإنسان إلى مركز دائرة الكون! ومنه كانت العودة إلى بداية البدايات.
أنور سلمان،
تَوْقَكَ الابداعي لم يكن عادياً، ولطالما تمسَّكتَ بماهيّة الشعر، كي لا تتشيّء الكلمة فتموت. وحده الشعر قادر على الجمع بين الحدْسِ والمعاناة. وككلّ خلاّق، حفَرْتَ شعرك في قلب الكينونة، مردّداً ما يجول في ضمائرنا وخواطرنا.
أيّها الشاعر،
كتبتَ للمرأة الحُلُم، لأنثى "نشيد الأناشيد"، للمرأة المرأة. أما قُلْتَ:
"في سِفْرِ الأسفارْ
جاء بأنَّ الله السَّاكن خلف الزُّرْقةِ والأحلامْ،
قد أبدعَ هذا الكون الحافل بالأسرارْ
في سبعةِ أيَّامْ
وتقولُ الأشعارْ:
إنَّ يدَ الفنَّان الخالِقْ
فرغَتْ من تشكيل روائع هذا الكونِ البدعَهْ
في بعض دقائقْ.
وليملأ هذا الفردوسَ الفَرحُ، الحبُّ... وتسْكنُ فيه الرَّوعةْ...
خلقَ الله المرأة
في باقي الأيّام السَّبْعَةْ!".

هي سبعة أيام كُرِّست لخلق الكون، هذا ما جاء في العهد القديم. أما في عهدكَ، أنور سلمان، فقد احتاج الله إلى سبعة أيام لابتداع المرأة! لا، ما من مغالطةٍ حسابيّة، بل مقاربة أنطولوجية، حدْسيّة، وإرهافيّة إلى من ترمزُ إلى جمانة عقد الكون، وجسر العبور بين الروح والمادة، واستشفاف بهاء الكائن، وصفاء الرغبة. وتبقى المرأة اللغز والحلم! ولغة الشعر رَحِميَّة؛ ومتاهة الانثى دربٌ خلاصيٌّ ينحو إلى السماء.
أنور سلمان،
غنَّيْتَ الوطن والبطولة، وممّا قلتَهُ:
"يا بلادي، أنتِ يا أغُنيَّة الحُبِّ، ويا أُغنيَّة الحربِ، ويا صَمْتَ الحضاراتِ القديَمهُ،
زَمناً علَّمتنا كيف نُغنِّي وجهكِ المرسومَ بالشمس، وبالفتحِ، وبالنصِّرِ، وَلكنّا نَسيناها جميعاً... يومَ مارسْنّا التَّغنِّي بالجريمةْ، فمشينا دون أن ندري إلى عصر الهزيَمهْ".

وللأبطال الشهداء بقاماتهم الشُعَل، وهاماتهم الشُهُب، أهديْتَهم نصر الخلود، واشرئباب النصل الوثّاب، واستحقاق كرامة الوجود بعد الممات.
أيها الشاعر،
بين المرأة والوطن الأم يبقى السفر رفيق تَرْحالِكَ عبر دواتِكَ!
ولربما من أجل ما قلتَه في هذا السياق:
"سفَرٌ إلى بوابةِ المُطْلقْ
فإذا رجعتُ، ففي يدَي أفُقٌ،
وإذا انتهيتُ ففي الرُّؤى أغرقْ".

هو الشعر يجترح معجزة اللاّزمن، إذ يختصر الماضي والحاضر والمستقبل، لا بل إن الزمن يضعه إكليل غارٍ على هامته. وطالما أن الشعر رؤيا فالرحيل تطواف متكرّر لحرية لم تعرف النمطيّة يوماً!
أنور سلمان،
رحلتُك الشعرية حملت بإصرار قنديلها الديوجيني!
ومَنْ غير الشاعر قادر على فكّ رموز عوالم هواجسنا، وقلقنا، وحيرتنا وعدم استقرارنا؟
رحلتُكَ تستعيدْ زمن البراءة؛ زمن عموديٌّ يحاول الهرب في زمن الرتابة والزيف الأفقي. وثورتُكَ المُدَوِّية بإسم الحقيقة والحُلُم، سَعَتْ إلى الكينونة البلّوريّة، والخلاص النَبَويّ.
أيها الشاعر،
ما من سفر وجوديّ إن لم ينبَعْ من أعماق خلايانا!
وسفرُكَ ما غادر يوماً أركان هيكلك الداخليّ. وكلّ حامل كلمة – فعل يخُطُّ بأحرفه المبتدا والمنتهى!
أنور سلمان،
في مدار رؤاكَ زرعتَ مجرّاتٍ. حوّلت الحلم إلى حقيقة. ارتقيتَ بسموّ تفكيرك، فَغَدا كل ما يتخطّى الأرض فضاءك الأرحب، وحيث السفر لا وِجْهَةَ له! أما قُلتَ:
"عندما تُبحرُ في الرُّؤيا إلى دُنيا بعيدهْ...
باحثاً عن زمنٍ تَرسْمُهُ أحلامُ شاعِرْ،
لا تَكُنْ ضيفاً على بيت القصيدةْ،
مَرْفأ الأَحْلامِ أن تَبْقَى المُسافِرْ!"