أنوَرُ لبنان...!

يغيب أنور سلمان، الشاعر والكاتب والإنسان ... ولبنانُ لا يزالُ  يتلّمّسُ الخروج من عتمةِ المؤامراتِ التي إجتهدَ صانعوها، لإبقائه في ظلمةِ التشرذمِ والإنقسام الدائمِ التشظّي...!

حسبُهُ أنورُ سلمان، الذي يطيبُ لي تحبّباً، تسميتُه ب ( أنور لبنان) ، انه كان جسرَ العبور الى المحبّة ،واداةَ التواصل الابيض  ، والمحَفِّزَ على التلاقي بين أبناءِ الوطن، أيّامَ إستعرتْ الحربُ ، وتخندقتِ الطوائفُ، وإحتربَتْ الأحزاب ، وتقاتلتْ الجماعاتِ، وتشلَّعتْ مفاصلُ البلدِ ...آنذاكَ نزلتْ الدمعةُ الاولى من عينيْ ذاك الآدمي الطيِّب، حزناً على صورةِ الوطنِ الذي بناهُ أبناؤهُ بشَقِّ القلبِ وجرْحَةِ الروحِ..! كان انور الطيِّب ، يتذكَّرُ ويبكي، على لبنانَ الذي كان..! وكثيراً ما كان يمسحُ دمعه بقصيدةِ لصديقِ دربه ( جوزف حرب) والذي كانا يشكلّ معهُ ثنائياً ، رفيعَيْ الأدبِ والكلمةِ والصورةِ الشعريّةِ المشغولةِ قطبَةً قطبةً ،بِسنّارةِ (أرتيزانا) الجبلِ اللّبنانيّ، والمَنْسوجةِ على نَوْلِ القلب..!  

كثيراً ما دمعتُ وَجْداً، وعاتبتُ ربيّ حُبّاً ، وتساءلتُ :

لماذا الأصحابُ يتدافنونَ واقفين؟ لماذا تنقصِفُ قاماتُهم ؟ وتأْفُلُ هاماتُهمُ ، وهمُ  في مَجْدٍ عِزِّهم؟؟

أسألُ ، أسألُ ، والرَدُّ صدىً ؛

"تُرابٌ يبكي على تُراب ، والدمعُ جواب"..!

نعم  يا أنور نعَم... نفتقدكَ يا خيرَ الناسِ ياأعزّ صديقٍ ،يا آبنَ النّقاء ، نفتِِشُ عليكَ في مجالس الأدب ، ومقاصِفِ الشعر ومنابر الكلام ...! ونستحضرك كلّما عزَّ علينا طَيِّبُ النّثْرِ ، وأَنْسَتْنا الأحداثُ الضّحكةَ و بسْمةَ الثَغْر.!

رُحْماكَ أنور، رُحْماكَ ...

لا تَزِحْ بوجهكَ عنّا

رَجَوْناكَ،

تطلَّعْ إلينا يا سيّدَ البَسْمَة

،يا ساكِنَ الفَوْق،

يا مُلْتَحِفاً بالنِعْمَةِ

والّلاّبِسَ الذَوْق...

خبِّرْنا عَنِ الصَحْبِ

وعتيقِ الزمانِ والأحوال

قُلُ لهم..قُلْها ، قُلْ :

إنكمُ في عميقِ القلب

إنكم باقون في البال..!

(الدكتور جورج كلاس)

عميد كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية

مدير عام الابحاث والدراسات،في مجلس النواب اللبناني2005

*************************************************************************************************************

"أبحث في عینیك عن وطن" لأنور سلمان

أوراق عشقیة ونغم يسابق الرمز(*)

جورج مخايل كلاس

يتابع انور سلمان في رابع انتاجاته الشعرية مهمة الارتقاء بالشعر، صورة ومضمونا وبُعدا وجدانیا يلامس الصلاة، شفافیة ونقاوة تعبیر.

فبعد مجموعاته الشعرية "إليها" و"سمیته الملك الآتي" و"بطاقات ملونة لزمن بلا اعیاد" التي أرادها تأسیساً لنمط شعري مغاير، ينطلق انور سلمان في باقاته الشعرية الجديدة "ابحث في عینیك عن وطن"(1) ) لیقعد ركائز جديدة للكلمة اللحنیة التي يسابق نغمها اللفظي رمزية معناها، فتتشكل من ذلك تبسیطیة تعبیرية، تجعل القارئ يعیش اللحظة الشعرية المولدة للقصیدة، وتجذبه الى مشاركة الشاعر انفعالاته وهدأته الراشحة صوراً شعورية فيها غنى روحي واصالة لغوية رصینة.

ففي قصائده الاربع والثلاثین، والتي توزعت جغرافیا كتابتها بین زوريخ وفیینا وستوكهولم وروما وبیروت على مدى اربع سنین بین  1999و2003، يتجه الشاعر إلى تقنیة فن الاستذكار للاستحضار، بحیث يسع القارئ المتذوق تحسس اللحظة التي كتب فيها الشاعر قصیدته فيعيشها ويتفاعل معها ويشارك الشاعر شعوره ورؤياه.

واذا كان الشعر في جمالیته رؤيا تتفلّت من حدي الزمان والمكان، فان القصیدة مع انور سلمان تزاوج بین الرؤيا والرؤية، فاذا الحب معه شعور واستشعار، واذا الجمال عملیة تذوق وتبشیر برسالة الجمال، واذا المواطنة لديه تذكر وتأمل وارتقاب وخوف على الذكريات من غد أسود يمحو معالمها.

والناظر إلى هذه اللوحات التي أدرجها الشاعر في باقات ثلاث رتّب فيها قصائده وفق فنیة تصنیفیة دالة، وتنوعت بین "كلمات تعشق السفر" و"مواويل إلى وطن في القلب" و”أشرعة بلا مرافئ"، يتبین له من خلال الصورة التي راكمها للحبیبة، التي أوقف لها قلبه، ان الشاعر ينهل من ثقافة فنیة وذوقیة تساعده في فهم المعاناة والتلذذ بحالته، فلا يشكو ولا يتذمّر، بل يتجه إلى تمجید عذابات القلب وينسج منها شالاً يرخیه على كتفي حبیبة أوقف لها قلبه، فیسترجع لقاءاته معها ويرتاح إليها بفرح اللابس حبه اسكیم وفاء.

وسر الشاعرية الرفیعة لدى أنور سلمان، أنه يفكر بقلبه، ويعبر بقلبه، فاذا قصائده ترجیعات هانئة لاوراقه العشقیة، وتعلق بالحاضر، وتطلع زاهر إلى الباقي من الأيام. والتفكیر بالقلب يجعل من الوقفات الشعرية واللوحات التعبیرية التي يتوزعها الكتاب صوراً باسمة عابقة بالحیاة ولا مطرح للحزن والأسود فيها.

والى النغم الغزلي الذي نجح أنور سلمان في نسج ايقاعاته بما يتلاءم ووظیفة الصورة الشعرية، مركّزاً على الفنیة الاسلوبیة في اختیار اللفظة الانسب والروي الاكثر رقة، نراه يحرص من خلال درايته باسرار العربیة التي تضلّع منها وأتقن استعمالاتها على انتقاء

المفردات ذات الدلالة المباشرة، والتي تعبر عن المعنى المراد بعیداً عن الترمیز والإبهام والكلام المتعدد المعنى. وهذه الخاصة اللغوية استحالت لدى سلمان میزة شعرية طبعت قصائده بالواقعیة الجمالیة حیث العواطف الخام والفكرة البكر لتولید الكلام الشعري وتأطیره في قصائد، هي في الغزل الأجمل، وفي الوطنیات الأنقى انتماء والأرسخ التزاماً.

ينسلّ هذا العمل الشعري من رؤية فنیة رفیعة ويتكئ على خلفیة أدبیة مدارية. مما أثرى المعطى الشعري بأبعاد فكرية وصور ناعمة. والى الصوغ الشعري والتفنن اللفظي في اختیار الأنسب من الكلمات، مع بروز واضح لاستعمالات علامات الوقف من استفهام وتعجب، برع أنور سلمان في صناعة عناوين قصائده، والعنوان بذاته قصیدة مختزلة ضمنها عصارة المعنى واكثر فيها من عناصر الجذب والالماح. فاذا القصیدة معه سكبة كلام ومزيج صور واستعادات ورؤى وفن عنونة تضاعف من جمالیة الشعر، وجعلت القصیدة اضمامة من التعابیر البلورية يلتذّ المتذوق بقراءتها ويرتاح إلى معانيها، على أمل ان يلتقط اللحظة الفنیة ويعیش التجربة الشعرية التي تفنن شاعرنا في تركيبها وتقديمها طبقاً لذّاً على مائدة المشهيات التي يدعونا إليها كلما لاحت له خاطرة يخالطها جمال.


(*) جريدة "النهار"، 10/10/2004، العدد 22104، الملفات: صفحة الجريدة.

(1) صدرت في منشورات دار الآداب، 2004.