كلمة الشاعرغسان مطر

في تكريم الشاعر أنور سلمان(*)

هنيئاً لك يا صديقي.

هنيئاً لك أشرعتك وإبحارك وشمس حروفك المبعثرة، تفرشها وليمة من الكلام الجميل، فنحن هنا الليلة ضيوفٌ على مائدتك المشتعلة بالشعر والفرح ورسائل الحبيبة والاختباء خلف ضفاف العيون.

وكم أحسُدكَ ايها الستّيني المراهق، فقلمك ما زال قطّافَ ورد، وشرايينك ما زالت ملتهبة بجمر العبث الطاهر، ايها القديس الرجيم.

ولو تأخذنا قليلاً إلى وطنك يا صديقي، فنحن غرباء مهجّرون، بلا سقفٍ، ولا قبر، بعدما صادر النبي بوش بن شارون بيتنا وكرامتنا ونفانا إلى سجن "أبو غريب" حيث يرفرف علم الحرية والديمقراطية فوق الاجساد المعذبة المغتصَبة.

ولم لنا ايها الشقيّ كيف استطعت أن تهرب وحدك من الكلاب المدجّجة الانياب والمخالب وتختبئ في بيت شعر وزرقة عينين!

لكأنك أدركتَ أن القياصرة الجدد لا يكترثون إلا للجثث المقطّعة ودهاليز الموت الباردة، فرحت تعمّر هذا الجمال الكثيف وتغطّيه بالورد والبحر والغمام والذكريات، فلا تكتشفه عيون الجلاّدين المرصودةُ للقتل والظلام.

هكذا حبكتَ المؤامرة، وأهديتَنا هذه المجموعة المكتملة نغماً وأصالة ورهافة وبساطة وألقاً، زوّادةً لأيام الجوع والجفاف.

غير أنك لم تصمد طويلاً. اختبأت في زوايا الجمال، لكنّ جرحك ظلّ ينزف، فدلّتهم قطرات دمك عليك. وبعد همسك المشبع بالحنان والحنين، جاءت "مواويلك إلى وطن في القلب" هديراً زاخراً بالرفض والجنون.

في اللعبة الأولى انتصرتَ علينا عاشقاً، وفي اللعبة الثانية انتصرتَ عليهم مقاتلاً.

إنه الشعر، يصير فتوحات في يدي من يملك النعمة ويتقِن اللعبة.

والشعر في يدك ليس الفوضى والعبث كما هو عند مغول الشعر المولعين، بإسم الحداثة، بتدمير اللغة والتراث والاصول، وبالاغتيال والهذيان والفراغ.

الشعر في يدك هو لغة الناس، اللغة البهيّة العذراء الصادقة الطاهرة. اللغة التي كانت وتبقى جسر التلاقي بين الثقافات والمعارف والفنون.

كل لغة ينفر منها أهلها هي لغة ميتة. بل هي لغة متآمرة. أما لغتك فيفهمها مائتان وخمسون مليون عربي من دون أن تتخلّى عن همّ الشعر وقلق الإنسان وأحلامه وعذاباته.

ولغة الناس هي حكماً لغة الحداثة. لأن الحداثة ليست مساحيق تحوّل اللغة إلى بغيّ، والشعراء إلى بهلوانات، والشعر إلى حفلة تنكّر يستغلّها الدخلاء ليفسدوا روعة المساء بالرقص المزيّف.

والحداثة لا تكون بالقطيعة بين الناس واللغة، بين الشعر والحياة، بين اللغة والهوية. والحداثة ليست غموضاً أعمى وكتابة اعجمية بحروف عربية.

الحداثة هي انتماء إلى الذات والى المستقبل من خلال الثقافة الشاملة والمعرفة العميقة للغة العربية واحتمالاتها الفنية الغنية وصياغاتها البسيطة الموحية الممتلئة دلالات وجمالات.

بهذا المعنى، فأنت حديث بامتياز. فلغتك البسيطة الطاهرة هي لغة المستقبل وهي اصعب من أن يعتدي عليها الادعياء. لذا تراهم يرجمونها لأنها تكتم عنهم أسرارها.

إن اعظم الشعراء هم الأطفال والانبياء، ولغة الأطفال هي الابسط والاصعب والاكثر ادهاشاً، ولغة الانبياء هي دائماً لغة الناس، لغة الحياة بتراكيبها وعفويتها وانسانيتها. أوَلم ينزل القرآن بلغة ناسه وزمانه، فكان مجد الحداثة ومعجزتها؟

وبعد،

فأنت يا صديقي شاعر مطرب، تغنّي وتُغنَّى، تأتيك البيّنات مطواعة لا عقد فيها ولا افتعال.

تكتب كما تتنفّس، كما تمشي، كما تدخّن سيجارتك مع قهوة الصباح.

هذه النعمة لا يُعطاها إلاّ الملهَمون، وهذا الشعر صار نادراً في زماننا، لذلك نراها نخبّئه في الضلوع كما تخبئ الارملة فلسها الأبيض ليومها الأسود، ولأنك لا تملك إلا قلبك ونقاءك ولغتك البهيّة والشعر.

فاقطع لنا وعداً بأن تمنحنا قصيدة كل ليلة،

هكذا نشعر بأننا ما زلنا أحياء، وبأنّ لغتنا بألف خير، وبأننا أمّة قادرة على قطع رأس التنين.

بالابداع الذي هو نقيض الهمجية

وبالشعر الذي هو نقيض الموت

وبالثورة التي تغزل شمسنا الجديدة وانساننا الجديد ومجدنا الذي لا تقوى عليه دبابات الانبياء الكذبة في الكنيست وفي البيت الأبيض.


* في حفل توقيع مجموعة انور سلمان، "أبحث في عينيك عن وطن"، الاونيسكو، الاثنين، 24/5/2004.