أنور سلمان شاعر الأصابع المحترقة

محمد زينو شومان(*)

يبقى أنور سلمان وإن رحل جسداً عن هذه الأرض ملء السمع والبصر والذاكرة. لقد قاوم في الفترة ما قبل الأخيرة من حياته، وهو أعزل إلا من قوة الأمل والشعر، كل مشاعر الانكسار والحزن الصامت والوحدة ليدسّ أحلامه المتبقية تحت جناحه وينام نومة الوداع.

وإن تسألني يا صديقي عن وديعتك الشعرية فاعلم أنها باقية لن تفنى، فمثلك بشعره النابض بالحب والثورة وشغف الحياة لن يترجّل؛ بل سيظلّ هكذا على مشارف الوطن والشوق والوجود عاصفة قوية الساقين لا تعرف الهدوء ولا الراحة.

أنور سلمان الشاعر الذي شمّر عن كلّ حواسه وجوارحه لاستقبال الحياة وهو في ذروة التيقّظ والانتظار، كان لا بدّ أن يُختم جواز سفره بخاتم الرحلة الأخيرة وإن لم ينته الشوط. فالجعبة لم تزل ملأى وحديث الشعر طويل طويل.

ربما كان يجرّب الموت ليختبر طعم الوجود ولكنه أغرته التجربة فأقفل باب هذا العالم الأرضي خلفه لينال قسطاً من الحلم تأبى عليه تحت الشمس.

لقد كان شعره ترجمة واقعية لرؤيته الفنية ولوضوح أفكاره وصوره ونهجه الحياتي والشعري، خالياً من التعقيد والغموض؛ باهراً كعين الشمس، ساطعاً كالنهار المتساقط من أعالي القرى والجبال والمتزحلق عن هامات الشجر. فلا غرابة، والحال هذه، أن يخيّل إليك وأنت تقرأ شعره وكأنك تتلمّس بأطراف أصابعك تضاريس أسلوبه الجمالي، الذي لرقّته ورشاقته يكاد يفلت منك كلما حاولت الإمساك به.

إن أنور سلمان هو شاعر الجمال والحب والثورة والغضب والعتاب والصد واللوم والنوم. لا يراوغ ولا يخفي وجهه خلف السطور. وهذا هو شأنه مغنياً إذ تكاد تسمعه وهو يعزف على عوده أعذب الألحان وأنت مستغرق في قراءة شعره كمن لا يستطيع وهو، في أوجّ نشوته الشعرية، إلا أن يستسلم لسحر الفصاحة والإيقاع. ولعلّك تتساءل في لحظة ما عن سرّ هذه الطريقة التي تجعل أنور سلمان يجمع في شعره كل هذه الأغراض والتيارات العاصفة المتضاربة في قاع صدره.

وهذه حقيقة ملموسة لا شكّ فيها في شعر سليمان الذي تتلاطم فيه ثلاثة اتجاهات واضحة الحدود والمعالم، وفي إمكان القارئ تقصّيها بيسـر وهي تراوح بين الاتجاه الوطني والاتجاه الإنساني والاتجاه الحسّي الغنائي العاطفي.

وربما طغت الغنائية على معظم قصائده وهي إحدى خصائص شعره البارزة التي تميّزه من أقرانه ومن أبناء رعيله الشعري ومن الآخرين.

وما دمنا نتحدث عن قصائده المغناة فقد فاز الشاعر أنور سلمان في مهرجان قرطاج التونسـي العام 1994 بجائزة أجمل أغنية عربية وأفضل نص شعري عن قصيدته (لا أريد اعتذاراً) ومنها هذه الأبيات:

كن كما شئت ظالماً أو غفورا

لم أعد في يديك قلباً أسيرا

إنني متّ في هواك كثيراً

فاحترق أنت في صدودي كثيرا

لا تهدد إن كنت أول حب

في حياتي فلن تكون الأخيرا

وللشاعر سلمان إلى هذه القصيدة، قصائد كثيرة في الحب والهوى وكلها تعبر عن حالات العشق والعاشقين بما يشير من دون تردد أو لبس، إلى انتمائه إلى مدرسة الحب في الشعر العربي ذات السمات المشتركة أو المتقاربة منهجاً وأسلوباً ولغة حسية لا ريب فيها ومن أعلامها قديماً وحديثاً عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني.

ومن نماذج شعره الدالة على هذا الانتماء وهذه الهوية الفنية قوله:

ذاك الهوى

أمسى غريباً إذا

يمر

لا يلقي سلاماً علينا

فلنعترف بأنه لم يكن

ولنفترق

كأننا ما التقينا

وهذا النفس الشعري يتكرّر في كثير من أشعار سلمان وهو العاشق الذي لا ينهزم ولا يتبدل مع تبدّل مفاهيم الحب وأحوال الغرام ويؤكد هذا الثبات في قوله:

كم غيرت كتب مفاهيم الهوى

وأنا كتاب الحبّ ظلّ كتابي

وإذا كانت هذه بعض الشواهد على قيمة الحب في شعر سلمان، فثمّة شواهد أخرى مغايرة تشير بمنتهى الصراحة والوضوح أيضاً إلى منحاه الوطني والسياسي والحماسي، الذي تتعالى في قصائده نبرة الانفعال والغضب والثورة والتمرّد بما يرافقها من الحدّة الخطابية المنبرية، التي تنسجم مع حالة الاحتجاج والنقد والتقريع لإسماع المخاطب وهزّ مشاعره وإيقاظه من غفلته واسترساله في خضوعه إذا كان من المقهورين، أو في طغيانه إذا كان من المستبدّين والملوك الجبارين. فلكل من هؤلاء الخطاب الملائم واللهجة المناسبة من مثل قوله:

فالناس بعض ملوك في أرائكهم

وبعضهم في سبيل الرزق قطعانُ

وبعضهم فاعل خيراً لمكرمة

وآخر فعله بغي وطغيانُ

فمن يعيد لهذي الأرض جنتها

وقد تنازعها ربّ وشيطانُ؟

وهذا نموذج آخر:

يا صديقي

منذ كنا

نحن في هذا البلد

غنم معروضة للبيع في سوق

خميس

أو أحد

ولعله، وهو يوجّه خطابه إلى وطنه الأكبر وطن العروبة، يعمّم المسؤولية عن الخطايا التي يتحمّلها في بعض الأحيان، مبرئاً إياه منها لأنها في اعتقاده، ليست من صنعه هو بل صنع الجميع:

وحتى الآن لم نتعب

فكيفت حملت – يا وطن العروبة –

نصف قرن من خطايانا

ولم نتعب؟!

وهو إذ يستثيره المشهد العربي السوداوي الممتد من سقوط غرناطة إلى الآن، يطلق صرخته المدويّة:

ماذا فعلتم أيها الشجعان

حتى اغتصاب القدس

حتى عودة التتار للعراق

حتى ما يحلّ اليوم في لبنان

ماذا فعلتم أفصحوا

إلى متى يطول هذا الصمت والهوانْ؟

وهو أخيراً، على الرغم من سيطرة الهموم الوطنية والقومية على شعره، حالم إنساني كبير يتخطّى بصره المدى الضيق الذي تفرضه حدود الجغرافيا ومفاهيم الأوطان والقوميات ليحلم بعالم أكثر اتساعاً تذوب فيه وتتلاشى فروق اللون والجنس لتصبح "الأرض للناس جميعاً". وهل لهذا الحلم الطوباوي أن يتحقق على هذه الأرض التي حوّلها بنو البشر إلى حلبة لصراع بشري ليس له من حدود؟ أليس هو من نسج الشعر والشعراء؟ ولكن ألا يحقّ لسلمان أن يتساءل ويحلم:

كم جميل

لو تكون الأرض للناس جميعاً

وطناً حراً بلا أي قيود

كل إنسان له فيها تراب

جاء منه

وهو في يوم إليه سيعود؟

فلماذا شوّهوا هذا الوجود؟

قسمونا

باعدوا بجوازات السفر

حكموا فينا قوانين وأعرافاً وأسباباً أخر.

إن أنور سلمان وإن غادر دنيانا هذه، لكن قدميه راسختان في أرض شعرنا العربي والإنساني لما لهما من جذور أعمق من جذور الشجر. وسيبقى اسمه محفوراً في ذاكرة الأجيال المتعاقبة شاعراً صادقاً لم تبهره بهارج الشهرة والألقاب، ولم يغرد خارج سرب الواقع سعياً إلى نجومية خادعة، بل ظلّ ممسكاً بجمرة الشعر طوال حياته وأصابعه المحترقة بها تشعّ كنجوم الليل المتمردة. إنه بكلمة مختصرة شاعر الأصابع المحترقة، لأنه أبى مخاطبة الوطن وهموم الأمة وجحيم الواقع وشجون القلب والحب والمرأة من أبراج بابل العالية. مثلما أبى ملامسة حممه البركانية المشتعلة في الداخل بقفازين سميكين خشية النار فكانت أصابعه المحترقة هي القلم الناطق وترجمان اللهب.


(*) شاعر لبناني.