شاعر الكلاسيكية الجديدة والانتشاء بجمال العالم
  بطاقات ملوّنة لزمن بلا اعياد نموذجاً

شوقي بزيع

ينسجم أنور سلمان في مجموعته الشعرية "بطاقات ملونة لزمنٍ بلا أعياد" مع مفهوم سابق للشعر ترسخ في ذهن القرّاء والمتابعين، حتى باتت له بحكم التكرار والاستمرارية قوة الحضور وسطوة النظرية والمبدأ. وهو في جوهره مفهوم وظيفي يجعل للشعر غايةً ودوراً ونصاباً لا يكتمل إلا بتضافر جهديْ المبدع والمتلقي. فالشعر وفق سلمان ليس مجرد ترف لغوي يتّخذ من الجمال المحض هدفه ومآله، ولا هو تطلع برناسي إلى جعل القول زخرفة مجانية وتأنقاً مفرطاً وتحليقاً بلاغياً فوق الحياة. ولكنه محاولة دؤوبة للتوفيق بين مقتضيات التوشية الجمالية ومقتضيات الاتصال بالواقع والالتصاق بشؤون الإنسان وشجونه.

على أن هذه المزاوجة الصعبة بين عناصر الكتابة لم تكن من بنات أفكار صاحب "سميتك الملك الآتي" بل اختبرها العرب منذ جاهليتهم بوصفها الخلطة السحرية التي تتوئم البلاغة مع الموقف، بحيث لا يتحول الشعر إلى مهارة شكلية وحيل لفظية من جهة، ولا يتحول إلى افكار ومعاني منظومة من جهة أخرى. وإذا كان أبو عثمان الجاحظ قد اعتبر أن المعاني مطروحة في الطريق ومتاحة لجميع من يطلبونها وأن الأشكال المغايرة والمفاجئة هي التي تحدّد قامات الشعراء، فهو لم يكن في المقابل داعيةً لتغييب المعنى وإعدامه بشكل تام، بقدر ما كان يعبر عن تبرمه من تقاعس الشعراء عن الابتكار وتكرارهم للمعاني التي اهترأت لكثرة الاستعمال. قد يكون أنور سلمان من جهته أقرب إلى مبدأ التسوية العادلة بين المفهومين المتضادين للكتابة الشعرية بحيث "لا يموت ذئب المبدع ولا يفنى قلم المتلقي"، إذا ما اقتبسنا من المثل السائر روحه ومغزاه. ولا بدّ لهذه التسوية لكي تنجح وتصبح مقبولة من السواد الأعظم للمهتمين بالشعر، أن يتنازل الشاعر عن السقوف القصوى للتورية والغموض وفوضى الخيال، ويتنازل المتلقي بالمقابل عن الاستسهال والكسل وانجازه للسطوع والقشور الظاهرة للكتابة، والتمسك بعمود الشعر

ونظامه المرصوص.

تتوزع قصائد المجموعة على مستوى المضامين بين موضوعي الوطن والحب بحيث يحتل هذان الموضوعان معظم مساحتها. ففي السياق الأول بيدي الشاعر حزنه وأسفه على ما آل إليه وطن الجمال والإشعاع الذي طالما اعتبر منارة للثقافة والانفتاح والحرية والتنوّع الحضاري والفكري. وهو لا يكتفي في نصوصه بانتقاد الحكّام وأهل السلطة وحدهم. بل يحمّل الناس الذين رفعوهم إلى سدّة السلطة مسؤولية موازية لأنهم ارتضوا بملء ارادتهم الخضوع لمن أحرقوا البلاد وجعلوها طعماً للعنف والحروب الأهلية، من أجل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم. على أن سلمان يُحلُّ الإنسان في المقام الأول لتراب الأولويات الوطنية، بحيث يأتي عنده قبل الشجر والمجر والجمال الطبيعي. لا بل هو يُماهي بينه كشاعر وانسان وبين بلاده النازفة والمتطلّعة أبداً إلى الخلود:

أنا بلادي... وجهها... صوتها

وما بها تُختزن الأعصُرُ

لون جراحي فصل صيف لها

وما تبقَّى فصلها الممطرُ

وفي بعض الأحيان يتجاوز الشاعر مأساة وطنه الخاصة ليطل على تراجيديا التاريخ الإنساني بوجه عام، حيث لم يكف قطار العنف والاقتتال عن التنقل من مكان إلى آخر، وحيث تبرز في الآن ذاته قدرة الشاعر على اجتراح مجازات جيدة ومغايرة لبعض الصور العادية أو المكررة التي يستخدمها في مواضع أخرى:

تأخذ المأساة في التاريخ

شكلاً لقطارْ

صاعد منه دخان الليل

في سهل النهار

لكننا لا نلمس عند أنور سلمان جنوحاً إلى التفجّع والندب والرثاء السوداوي الذي شاع عند الكثير من الشعراء بعيد هزيمة حزيران وحروب العرب الأهلية والوطنية المختلفة. ورغم أن الزمن الذي يقاربه الشاعر هو زمن بلا أعياد، كما يعبر في عنوان المجموعة، فإن تعبيره عن الألم سيتراجع نسبياً أمام "طربه" بالكتابة وفرحه بنشوة الإبداع عبر "بطاقات ملوزنة" غايتها تحويل الشعر إلى احتفال لغوي بالحياة لا البكاء عليها. وهو ما سيصبح أكثر وضوحاً في قصائد الحب التي تبدو عنده اقرب إلى الغزل والتغني بفتنة الأنوثة منها إلى الوله العاطفي والهيام المشبع بالحسرات. وأحياناً يبدو الجمال الأنثوي وهو يبحث عن مطلقه الأخير موازياً لأنوثة اللغة التي تبحث بدورها عن اكتمالها في البلاغة والإيقاع والبهاء التعبيري الذي يجسده بوضوح هذان البيتان:

أفنيتُ عمراً من الساعات متنقلاً

بالحرف حتى غدا خفراً وتنزيلا

تركت صورك بالنجمات مشتعلاً

وشعرك الطفل بالأقمار مجدولا

ففي هذا النموذج، كما في نماذج موازية يصل فيها التطريز البلاغي إلى ذروته. يتساءل القارئ إذا ما كان سلمان مفتوناً بالمرأة المنشودة أم بذاته في مرايا اللغة المنتشية. ويتساءل أيضاً إذا ما كانت المرأة التي يقصدها هي امرأة الواقع أم المرأة المسروقة من جوف الخيال والمزينة بمبالغات الشعراء وأوهامهم. وإذا كان هؤلاء يراوغون أحياناً في إجاباتهم فإن شاعرنا يكشف في لحظة غضب أو ندامة عن غلبة الخيال على الحقيقة والشعر على الواقع، حين يخاطب حسناءه بالقول:

فغداً حروفي طيبها يبقى وحسنك أنتِ عابرْ

وأحياناً يختل التوزان بين المعنى والشكل لمصلحة هذا الأخير بحيث نلمس بوضوح شغف الشاعر بالبديع والبيان والتشطير الايقاعي والهندسة الحروفية. فهو من هذه الناحية سليل ما يمكن تسميته بالمدرسة اللبنانية التي تميل إلى التأنق والتنميق والبلاغة المحكمة، كما يظهر عند الأخطل الصغير وصلاح لبكي وسعيد عقل الذين يُبدي سلمان اعجابه وتأثره بهم. وأحياناً أخرى يذهب النص باتجاه المزيد من الطراوة والليونة التعبيرية، مقترباً من مناخات نزار قباني، كما في قوله "غيَّرني حبك غيَّرني/ أرجعني طفلاً في ساعات".

يبدو الشعر في المجموعة، كما في معظم نتاج الشاعر، متصلاً بفرح العيش وبهجة العالم أكثر من أي شيء آخر. لذلك فإن القصائد لا تميل إلى الطول، ولا تذهب باتجاه الملحمة التي تتطلّب دماءً كثيرة وجدّية مفرطة لا يستطيع الشاعر احتمالها، بل هي مقطوعات قصيرة وراقصة، ومرشَّقة إلى أجد الحدود. ولست اعرف هنا إذا ما كانت بعض النصوص التي تحولت لاحقاً إلى اغنيات معروفة قد صمّمت خصّيصاً للغناء أم انها اختيرت لهذه الغاية نظراً لتطابقها مع مواصفات الأغنية. ولكن الأمر سيان بالطبع لأن مفهوم سلمان للشعر يجمع بين وضوح المعنى وبين طراوة الشكل وعذوبة الجرس الذي يتيح لمعظم قصائده أن تتحول إلى اغنيات.

لم يكن أنور سلمان أخيراً ليأنس إلى فكرة الحداثة كما جسدها بعض غلاة الإبهام والتعمية والمجازفة المفرطة بقواعد اللغة. لكنه رغم ذلك لم يكن بعيداً عن الحداثة المعتدلة التي لا تنقلب على التراث بل تتمثله وتتجازوه وتضيف إليه. وهو لذلك لم يتردد في قبول شعر التفعيلة والكتابة على منواله، رغم أن نماذجه الأفضل تنتمي لقصيدة الخليل التي امتلك ناصيتها وأسلس قيادها بشكل لافت، بما يتيح لنا أن نسميه شاعر الكلاسيكية الجديدة وأحد روّادها الكبار.

شوقي بزيع,  في قصيدة رثاء  للشاعر الراحل أنور سلمان بعنوان "شُبِّهت للموتِ جسماً" أُلقيت في الذكرى السنوية الاولى لرحيله خلال احتفال أقيم في بلدة الراحل في الرملية ٢٣ نيسان ٢٠١٧