كلمة في الصديق الراحل الشاعر أنور سلمان

د. جورج طربيه(*)

مَنّ الله عليّ بثلاثة من أصدقائي المميزين إسمهم "أنور" وهم الأساتذة: أنور يونس، أنور الفطايري، وأنور سلمان.

الأول نسيبي وابن بلدتي تنورين، ورفيقي منتصف الستينيات في كلية التربية، ورفيق النضال الوطني أيام تأسيسي ثانوية تنورين الرسمية.

الثاني علم من أعلام الحراك الوطنيّ والنقابيّ على مقاعد الجامعة اللبنانية، جمعتنا رحلة سياحية – سياسية إلى سوريا السنة 1967. كما أولاني ثقة مطلقة أدبية فوضع بين يديّ دفتر أشعاره، جالساً معي ساعاتٍ طوالا في مقهى كلية التربية، مستمعاً بشغف إلى ملاحظاتي، مما استفزّ المسؤول الحزبي عن الطلبة الاشتراكيين الزميل نزيه يمين فقال لي مرة: "رجاءً كفى تمجيداً لأنور من طريق إيهامه بأنه شاعر متى تفكّ أسره وتطلق سراحه فالحزب بحاجة إلى أدائه المميز".

أما الأنور الثالث، أنور سلمان، فلم تجمعنا المقاعد والنضالات الجامعية، وقد ناب عنها عملنا المشترك في إطار اتحاد الكتاب اللبنانيين، فضلاً عن الكتابات الأدبية شعراً ونثراً، والاهتمامات الوطنية والإعلامية.

وأكثر ما أسرني في هذا الثالث الغالي سماتٌ سبع تميّز بها وتركت أثراً عميقاً في نفسي:

-اعتراضه الصارخ على ضخامة العدد في اتحاد الكتاب، وقلّة الإنتاج. وتحويل هذه المؤسسة الثقافية الإنمائية الطليعيّة إلى مطيّة مشبوهة أبعد ما تكون في

أدائها عن الأهداف السامية التي وُجدت من أجلها.

-نظرته الطائرية إلى الأمور كسراً للقشور وسيراً إلى الأغوار العميقة ففي رأس سُلّمه القيمي وهرمه الوطنيّ والثقافيّ، البُعد الانتمائي الجامع وسعيه الدائم الدائب في سبيل تحويل السدود إلى جسور.

-إنتماؤه إلى عائلة موحديّة أصيلة جعله لا يتنكر لأصله والسرير الأسري الذي تحدّر منه، لكنه بفكره العميق ورؤياه الثاقبة عرف كيف يزكّي العصبيّة البنّاءة، ويتصدّى للتعصّب الذميم الهدّام.

-الانسجام التام بين قطبي العلم والعمل، فبقدر ما كان شفافاً كالبلور في سيرته ومساره، انعكس ذلك بأمانة في شعره بخاصة، وأدبه بعامه، فإذا ذاته تشعّ وتتكسَّر كما لو أنه في قاعة مرايا، يتكاثر وهو واحد مضيء.

-       رفضه التنكّر للتراث بإسم الحداثة فالشجرة الشعرية تتكامل فيها الغصون الشاهقة المثقلة بالثمار، والجذور العميقة المتوارية عن الأنظار، فلولا هذه لما كانت تلك.

-       استقامته النقابية والادبية فهو بحق مَثَلٌ يحتذى حافظ على نصاعة الزنابق حتى وهو محاط بمستنقع الوحول.

-       وفاؤه لأصدقائه وقد أغناني حين أولاني شخصياً دعمه وثقته وصداقته ممّا شكل تميمة ثمينة في عنقي أعتزّ بها ما حييت.

إن وجوه الائتلاف والاختلاف بين أصدقائي الثلاثة الذين ذكرت، كثيرة. وقد نجد بالمقابل لديهم بعض وجوه الاختلاف، وهذا أمر طبيعي. لكن أكثر ما تشابهوا به اثنان:

التمايز والشهرة في مسارهم الحياتي.

والموت الفاجع.

أنور يونس غامر وغادر لبنان أوائل الحرب طمعاً بالدكتوراه في جامعة السوربون. فحرّر في صحف عدّة فرنسية، وتوّج حياته مراسلاً لتلفزيون الجزيرة من جنيف.

أنور الفطايري تألّق طالبياً وحزبياً وقائداً لاتحاد الطلاب في الجامعة اللبنانية، وما تلاه من مسؤولياته في الحزب التقدّمي الاشتراكي.

وأنور سلمان في تألقه علامة فارقة في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والحركة الشعرية والأدبية اللبنانية.

هذا من ناحية التمايز والشهرة اللذين تجاوزا الحدود الضيقة إلى الآفاق المفتوحة.

أما من ناحية الموت الفاجع فقد ظلّلت رايته السوداء كلاً منهم. أنور يونس قضى بالسكتة القلبية وهو في عزّ العطاء في بلاد الغربة. فحملت عائلته المفجوعة رماده في وعاء ليدفن في مسقط رأسه في لبنان. وقد واكبنا رماده سيراً مسافة كيلو مترات إلى مثواه الأخير، وسكبنا عليه الدمع الغزير مستذكرين براءته ونصاعته وعشقه للحياة، مصدومين كيف تنتهي حياة الجهاد في لحظة خاطفة حفنة من الرماد.

أنور الفطايري الذي كان يقول لي كلما دعوته إلى اليقظة بأنه "رجُلٌ قدريّ". ومرحّباً بالموت إذا آن آنُه، طال الزمن أم قصُر. فقضى شهيداً. وكم سعدتُ حين كرَّمني شقيقه السيد بهيج رئيس البلدية السابق في بقعاتا – الشوف، وتبادلنا دروع التقدير والوفاء.

أما أنور سلمان فقد امتاز عن الغاليين اللذين سبقاه بأنه بقي لي وكأنه الوديعة الأخيرة بعدما غادر سابقاه. فصرت أرى فيه صورة ثلاثية الأبعاد ومختصراً للثلاثة في واحد. وإذ بموته يتحوّل إلى ثالثة الأثافي، فيسقط على قارعة الطريقة، ضحية حادث صادم أرعن مروع مزلزل ما نزال نتأثر بارتداداته العميقة. لكنها مشيئة الله سبحانه وتعالى الذي لا يحمد على مكروه سواه.

أخي وحبيبي أنور سلمان. ثق أننا ذاكروك في كل مناسبة وقادرو دورك وزرعك الأصيل. وما هذا الكتاب الذي يصدر في ذكراك إلا عربون محبة وتقدير ووفاء ممن شاؤوا أن يفوك بعض دينك في ذمتهم.

ففي ذمة الله أيها الحبيب المغادر وفي حضنه السماوي مع الأصفياء  المبدعين الخالدين.

وسلام الله عليك وعلى ذويك ومحبيك أيها الراحل الكبير، يا من كنت أحد بدور زمانك ومتّ قبل أوانك.

الأحد 19 شباط، 2017


(*) شاعر وبروفسور، رئيس مؤسّس لمجلسيّ أمناء "المُلتقى الثقافي للحوار اللبناني – العالمي: و"تجمّع البيوتات الثقافية في لبنان"، عضو مجلس أمناء "المجتمع الثقافي العربي"، نائب رئيس "جامعة آل طربيه في لبنان وبلاد الانتشار"، رئيس اللجنة الثقافية في "رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية"، أمين اداري سابق لاتحاد الكتّاب اللبنانيين.