مواقد أنور سلمان وسجاياه

حسين عبد الكريم(*)

في مواقد الشاعر أنور سلمان حكايات لجمر الفصول، وفيها بكاء حميم، وفيها نداءات صدأتها الأيام، وفيها جراح لا تصرخ إلا في العشيات لأن العشيات ابهى للصراخ المتمرد قليلاً على الهداة والركود.

سجايا انور سلمان التي يعيشها في شخصيته، وعلاقاته مع أصدقائه وأيامه وعائلته تلتجئ بشكل دائم إلى قصائد.

ورق أنور سلمان ورق عادي ضارب إلى الشحوب، لكنه حنون... ورق أبقت عليه الفصول، من غبارها صور الليل والنهار، والحب... أنور سلمان شاعر تعشش في أنفاسه رائحة الخمسينات رائحة الليالي المكتظة بالدخان

والأحلام والثرثرة البيضاء والسوداء والعادية.

وأنور سلمان شاعر يحق له بجدارة أن يختزن في أنفاسه رائحة الخمسينات فهو ابن تلك المرحلة العجيبة.

منذ وقت وليس بعيداً التقى الشاعر أنور سلمان والشاعر محمد الماغوط... منذ حياه الأستاذ الماغوط قال له... أعرفك منذ عهد بعيد قليلاً... كنا نلتقي وكانت الحياة وكانت المدن... الخمسينات أجمل أيام عرفناها وعناها أيام واضحة أيام فيها متسع للأحلام والنجاح والفشل...

هكذا بدأ اللقاء بعد انقطاع. وبدأ اللقاء مصادفة بين الشاعرين.. وهكذا بدأ الأستاذ الماغوط الحديث عن الخمسينات والأدب والحياة وحديث الشاعر أنور سلمان كان كذلك حنوناً عن مرحلة مهمة هي مرحلة الخمسينات، هذه المرحلة، التي أعطت لحقاåئق كثيرة ملامحها وأعطت لمدن كبيرة  وصغيرة صفاتها وأسماءها وكوّنت فيما ثقافية وإبداعية وقدمت مبدعين كباراً، إلى اليوم لم ينطفئ بريقهم.

أنور سلمان في ديوانه الجديد بطاقات ملونة لزمن بلا أعياد يجيء حاملاً صوته وأحزانه ورائحة الخمسينات والبطاقات الملوّنة التي حملها الديوان هي هواجس وأحلام أنور سلمان هي عشقه وخيباته هي المتبقي هي مواقد النفس وشرفات العمر، هي شموع حيناً... وهي رسائل عشق حيناً، وهي ثرثرات باردة ودافئة حينا... هي كبرياء على طريقة الحلم حيناً... وهي عناوين عديدة لنفس وأنفاس وهواجس وأحلام أنور سلمان يتقدم بها لزمننا هذا، لزمننا الذي ضيع أعياده، زمننا الذي ضيع الإنسان أبهى معانيه ضيع أحلامه وأنور سلمان لا يقدم بطاقاته هذه ملونة بألوان غامضة يصعب على القارئ، فهم مغازيها ودلالاتها بل هي بطاقات واضحة جداً كسهرة فرح وحب وغناء في الخمسينات.

كبرياء

لا تقولي هجر الضوء زماني

وانتهيت

أنا لولا وجهك المرسوم في جرحي

ما كنت بكيت

أنا لولا حبك المزروع في الأوراق

ما كنت حملت الشعر

قنديلاً مسائياً وبيت

حاولوا أن ينزعوا وجهك من جرحي

لأنسى، فأبيت

كسروا قنديل أسفاري على جفني

ولكني اهتديت

وفرشت الليل أهداب حروف

ونجوم

وعلى جرحي مشيت.

انه الشاعر أنور سلمان يقدم بطاقته الملونة واضحة صريحة، لا غموض ي معانيها ولا غرابة... وهذه من العلامات الأساسية التي تميز بها كثيرون من شعراء جيل الخمسينات، تفاصيل ومفاتيح الكلام عند هذا الشاعر تشبه تحيات الأصدقاء الودودة التي تخلو من المجاملة المبالغ بها، ومن التكلف الباعث على الإزعاج ومقاطع قصائده والأفعال التي يتكئ عليها، ليقول ما في وجدانه مثلها مثل حياته وأيامه.

أنور سلمان لا يعدد دروبه إلى أحلامه، ولا ينوّع في أساليبه تنويعاً واسعاً، لكنه يقدم للقارئ قصيدة، لا تنقصها الدهشة ولا تغيب عن جوّها الأحزان والأفراح، التي تقترب من الحلم، وتبتعد كأنها الغاية حيناً وحيناً كأنها سحابات صيف ضلّ عنها النظر، وتاه عنها انتظار الرعاة... فيض خواطر أنور سلمان فيض حميم وشعري ورؤاه، لم تنلها آفة الزمن، الذي خسر الإنسان فيه أحلامه.. لكن هذه الآفة أبعدت هذا الشاعر عن مداراته أياماً وفصولاً وسنين أبدعته لكنها لم تنقل حلمه فعاد إلى صحو الهاجس والذاكرة وبطاقات الأيام بطاقات الحب... والحنين... والأغنيات ورغم صداقته الوثيقة بالشاعر جوزف حرب، فهو مختلف عنه... جوزيف حرب، لا يرسم دوائره إلا في هواء خاطف للبصر، أما الشاعر أنور سلمان يرسم دوائره وهو يعتقد أن الهواء ملائم جداً لرسم الدوائر، فتأتي قصائده بسيطة هادئة تحمل في ايقاعها صوتاً خمسينياً مرنان الغناء والكلام.

قد يعتقد من يقرأ أو من يقترب من أنور سلمان لأول مرة انه شاعر عادي، عتاده، قدم العهد به، وعدته جمر همد وهجه، إلا أن من يمعن البصر والبصيرة في روح وشعر هذا الشاعر يلمح شاعراً لم تضق عليه الأحلام واللغة والمعاني ويلمح في محبرته ضياء مُلفتاً للنظر، انه ضياء القصيدة.

باقة ورد لعيد ميلادها.

قالت:

عَرَفْتُكَ يا صَديقي شاعِراً،

والشِّعْرُ وَرْدُ مَحَافِل الأَعيادِ.

لَوْ جِئْتُ أَطْلُبُ مِنْ كَلامِكَ باقَةً،

ماذا سَتُهْدِيني؟... غداً ميلاَدي!

فَأَجَبْتُهَا،

وَحَدِيثُها في مَسْمَعي

كَرِسَالَةٍ وَصَلَتْ بِلا مِيعَاد:

تَلهو بِنا الأَعْيادُ.. تَسْرِقُ عُمْرَنَا،

وَنُحِبُّهَا بِبَراءًةِ الأَوْلادِ...!

هَلْ جِئْتِني،

وَجَوارحي مُنْهَدَّةُ،

والجَمْرُ أَطفَأةُ رُكَامُ رَمَادِي؟

لَمْ يَبْقَ في شِفَتي كَلاَمُ للِهَوى

وَقَصَائِدُ وَرْدِيَّةُ الإِنْشَادِ.

فَأنا..

طَوَيْتُ عَلى الحَنِينِ دَفاتِري،

وَحَمَلْتُها قَمَراً لِجُرحِ بلادي

هذه بعض صفحات دفاتر أنور سلمان التي ظلمها هذا الشاعر حيناً، بالابتعاد عنها، وأدى أحلامه بالقطيعة والاسف على الاعياد الضائعة ولهذا نجده أحياناً يتأثر بدفاتر الآخرين وأوراقهم وهل يؤدي الأوراق كالقطيعة وهل يشتّت الأحلام كالبعد عنها، وهل يضعف الهاجس كالأسف الطويل؟!!

ولا ننس إن الشاعر أنور سلمان يكتب الاغنية وقد غنى له فنانون وفنانات لكن الذي يبقى من الشاعر برأيه الشعر، القصائد، الأحزان التي تلبس ثوب الحلم، والأفراح التي تنام في اجفانها الاعياد.

"بطاقات ملونة لزمن بلا أعياد" تجربة بدأها الشاعر أنور سلمان بالكتابة على الورق العادي، بروح عذبة تتمتع بالصراحة والوضوح وبقيت العذوبة والصراحة عدة القصائد وبقي الجمر، يلون هم الشاعر وبقي الحلم قامة، تضمحلّ وتشمخ بقي الحلم قامة كل القصائد حيناً يصير العشق، وحيناً يصير أنور سلمان الذي يغنّي التراب والوطن وحيناً يصير الذاكرة والاصدقاء وحيناً يصير شكل الشجر والمدن حيناً وحينا يصير البطاقات والاعياد وصوت الزمن وعنوان المكان.


(*)  كاتب سوري.