كلمات عابرة في مقام شاعرٍ كبيرٍ باقٍ

                                                                                                   د. محمد شـيّا

                                                                                        أمين عام مساعد سابق

                                                                                      لاتحاد  الكتّاب  اللبنانيين

                                       1

لم أكن بحاجة لأن يسألني أحد أن أكتب شيئاً في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الصديق الأعز الشاعر أنور سلمان – شاعر الجمال المتقن؛ شاعرُ الحداثة المجدّد المبدع؛ شاعر الأغنية الرومانسية الرقيقة المشغولة بأوراق الورد لا بالكلمات؛ شاعر المعاناة الشخصية العميقة الصامتة والصادحة في آن؛ شاعر المرأة الصديقة والرفيقة والحبيبة، ومغنّي جمالها وأسرارها وحريتها كذلك؛ وشاعر الوطن، قبل وبعد أي شيء آخر، لا وطن الحكّام والأوسمة والنياشين والرايات العالية الخادعة المتناحرة، بل وطن المحكومين، وطن الرجال والنساء والأطفال الطيبين الذين لا يريدون من وطنهم إلا زهرَه وعطرَه وجمالَ جبالِه وشطآنه... وشيئاً من  الحرية والكرامة اللذين يجب أن يدافع عنهما الشعراء في كل زمان - لأنهما ببساطة مبرر وجود لبنان وماهيته.

                                      2

وبعد، فحين تكون أمام شاعر كبير مضى وتلك بعض خصاله الاستثنائية، يغدو الإسهام بقسطٍ شخصي - ولو متواضع - في ذكرى رحيله ديناً داهماً مستحقاً لا تملك إلا السعي لوفائه وسداده. ولكن هيهات.

هيهات أن تنجح كلمات معدودات في الإحاطة بعالم أنور سلمان، الإنسان والشاعر. فعالم الإنسان الداخلي، وبخاصة عالم الشاعر والأديب والفنان المبدع، عالم خاص، جوّاني، متفرد، لا يصح فيه نموذج ولا قياس. فكل فنّان أو أديب، وكل شاعر مبدع على وجه الخصوص، حالة خاصة، نموذج في ذاته، عالم داخلي ثرّ من الدهشة، من التجربة والذكرى، من الألم والبهجة، من الحزن والفرح، ومن المخيلة والعقل؛ عالم لا يقاس في ميزان أو وفق قواعد، ولا يقارن بآخر خلا ذاته:

 فكان ما كان مما لست أذكره       فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر!

هوذا عالم أنور سلمان، كما عالم كل مبدع، شديد الخصوصية، لكنه لا يني يوزّع هنا وهناك وهنالك إشارات تعين من يرغب بالمتابعة والتحليل والاستقطار لخمرة الروح في شعره، وهو ما سيحاوله صاحب هذه السطور.

أنور سلمان هو بداءةً إبنُ الرمْليهْ، القرية العاليهية الوادعة حتى السُبات بين أشجار السنديان والملول والصفصاف والزيتون. البيوت فيها مجرد استراحات صغيرة تحرس هذا البستان الشاسع أو ذاك، يضللها العوسج والياسمين، فيما تؤوب إلى مائها وفيئها شحاريرُ وهداهدُ وبلابلُ ذلك الوادي الأخضر المتهادي نزولاً صوب البحر.

في هذا الوادي الخاص الجميل وُلِدَتْ، على الأرجح، شاعرية صديقنا الكبير الراحل أنور سلمان الغنائية.  فقد عبّ طفلاً ثم يافعاً من ألوان الوادي الرائعة، من شجي بلابله، وضوع عطره، وملمس كل زهرة فيه. وتغلغل في مسام كيانه مذاقُ الوادي الخاص وجمالاتٌ بلا عدد  تفاجئك في كل حنية وجنبة من جنباته، لا يدري بها غير الذي تحسسها يافعاً وصرف صباه في زوايا جنّاتها، ثم احتفظ بها لنفسه، وإلى الأبد.

الرمْليه تلك، والوطنُ رمُليه جميلة كبرى، هي التي غنّاها أنور سلمان في معظم شعره. أوليس لها  بعض ما كتبه في "بطاقات ملوّنة":

"....هي أسوار جبال.... توّجتها الريحُ بالغيم...

قطعةٌ من سحر فردوسٍ،

لها أرجوحة الشمس، وأسفار الغمام." (بطاقات ملوّنة، ص 12)

وللناقد أن يستحضر عشرات الصور الأخرى البالغة الجمال التي احتوتها دوواين* شاعرنا الراحل أنور سلمان، صور لن تستطيع إذا اشتدت بك الهلوسة أن تميّز فيها بين ما رأته العين يافعاً وما اجترحته المخيلة شاعراً بل صانعاً أنيقاً للحلي.

*دوواين الشاعر الراحل أنور سلمان الصادرة (وفق معلوماتي):

إليها، سمّيته الملك الآتي، أبحث في عينيك عن وطن، حبّك ليس طريقي إلى السماء، القصيدة إمرأة مستحيلة، بطاقات ملوّنة لزمن بلا أعياد.

                                     3

أما عامل التكوين الثاني، فهو معاناة أنور سلمان العميقة الصامتة والصادحة في آن معاً. كان أنور سلمان باستمرار أقرب إلى حافة الحزن، وهو ديدن الشعراء والمبدعين والمفكرين عموماً. ألم يتحدث عنهم وبإسمهم جميعاً جبران حين كتب:

 غريبٌ أنا في هذا العالم!

والغربة مدعاة للقلق والحزن والألم بالتأكيد، لا للطمأنينة والفرح والبهجة – وما من شاعر وفق ما أعرف لا يسكنه بل ويتعبُه القلق. الطمأنينةُ  للناس العاديين لا للشعراء. وعليه، لم تفتِ الغربة تلك الراحل أنور تحديداً، وهي دليل وعيه – وممارسته – وظيفة الشاعر بامتياز. يقول، من بين أمكنة أخرى،:

"ماذا أقولُ

ولست أملكُ من غدي

إلاّ حكايا غربتي ودُواري!"

                                               (القصيدة امرأة مستحيلة، ص 14)  

ألم أنور سلمان له مئة سبب، إذاً، في الناس والزمن، وفي حال الوطن وجراحه النازفة على وجه الخصوص. إلا أن له، إلى ذلك، ما يخصّ أنو سلمان الإنسان والأب مباشرة. أوليس ذلك ما يعبّر عنه شاعرنا على نحو خاص وعميق ومتزن، في قصيدته التي عنونها "تغيبُ وتبقى القمر". يقول أنور في مطلع القصيدة:

"تسافرُ.... تمضي،

وتزرعُ حزني في كل أرض!

وأبقى، لأمشي وراء سرابِ غيابك،

ومِلءُ جفوني فتونُ شبابِك،

وبين يديّ عبيرُ ترابك."

                                           (بطاقات ملونة، ص 151)    

          4

المكون الرئيسي الثالث في شعر الراحل أنور سلمان هو الوطن والأرض. ملأ الوطن صفحات دوواين أنور سلمان كلها، إذ نادراً ما يغيب في كل قصائده: هو الحزن والألم بل والغضب حيناً، لكنه الأرض في فرح ألوانها وشجو أغانيها في كل حين. يفتتح الشاعر ديوانه "قصائد ملونة"، بإعلان صريح لعشقه أرض الوطن، شمسها وظلها، أغانيها، جراحها، وحتى عتبُه:

"عشقت هذي الأرض... غنّيتها

أحلى أناشيدي، فهل تذكرْ؟

لشمسها أشرعُ صدري... فلي

غدٌ بغير الضوء لا يزهرْ.

أنا بلادي ... وجهها ... صوتها،

وما بها تختزنُ  الأعصرْ.

لونُ جراحي فصلُ صيفٍ لها،

وما تبقّى ... فصلُها الممطر."

وعتبُ أنور غضبٌ، بل صراخه، وبخاصة حين ينادي ولا من يجيب. غضبُ أنور له عنوان واضح هنا، وهو ما لا يفعله الشاعر إلا نادراً. وبدا ذلك في قصيدته "لبنان يا عرب"، من ديوانه "القصيدة امرأة مستحيلة". كتب أنور:

"سألتكم أن ترحموا لبنان...

يا عرب الأمجاد في التاريخ،

والأسيادِ في الإيمان...

سألتكم....

أن تخرجوا عن صمتكم...

أن تنهضوا من موتكم،

وتنزعوا الأكفان...

وأن تثوروا مرةً

من أجل أن تحيا بكم أوطان!"

أما سبب العتب والغضب بل والثورة فهو غفلتهم عن نجدة لبنان حين احتاجهم، وهو الذي كان لهم في يوم من الأيام الوردة والأغنية والعيد وماسة التاج:

"كان لكم لبنان...

في يوم مضى،

نشيدْ!

كان لكم تفاحةً، ووردةً،

وعيدْ.

كان على صدوركم عقداً

من المرجان...

كان لهذا الشرق تاجاً زاهياً

من أكرمِ التيجان.

كان لكم منارهْ...

كان كتاباً مترفاً أهداكم الحضارهْ.

فهل طويتموهُ في أدراجكم،

وهل نسيتم

كلّ ما أهدى لكم لبنانْ؟"

ويتابع في قصيدته الطويلة:

"سألتكم:

كيف يعود الله – في يوم –

إلى جنّتكم،

إن تقتلوا لبنان؟

وما الذي يبقى لكم

إذا انتهى لبنان؟"

ويختم:

"فهل لكم من وقفة...

وإن تكن خجولة،

توقفُ نزف ما تبقى من دمٍ

في آخر الشريان.

وتُرجعُ الشمسَ إلى نهارنا،

وتدفعُ العدوان...

لو تبدأونَ الآنْ.

لو تُقدِمونَ الآنْ.

كي لا يجيءُ زمنٌ

في ليلهِ تستغفرونَ ربّكم،

وليس من صفحٍ

ولا غفران!"

                                                        (ص 119 – 127)

وكيما نفهم سبب عتب أنور سلمان الشاعر والإنسان تكفي ملاحظة أن القصيدة (الغاضبة) أعلاه مؤرخة في تموز 2006.

أما المكوّن الرابع، في شعر شاعرنا الراحل الكبير أنور سلمان، فهو المرأة.

المرأة حاضرة بكثافة في أعمال أنور سلمان كافة، على نحو مباشر بل ومرتفع الصوت في الغالب، أي في أعماله  التي توجّه بها للمرأة في أعماله الغنائية عموماً والمتعددة الألوان. ويكفي دليلاً على ما نقوله ملاحظة أن المرأة كانت عند أنور سلمان في صلب عناوين أربعة دوواين له من أصل ستة. وهي موجودة أيضاً، على نحو ما، حتى في أعماله ذات المضمون الوطني أو السياسي (مع أن الأخيرة ليست كثيرة عنده ولم تجذب كما يبدو اهتمام راحلنا).

المرأة في أعمال أنور سلمان مرادف للحبّ، وأنور شاعر الحبّ بامتياز، علانية وبتوقيعه. فلنقرأ شاعرنا الرومانسي الراحل يفتتح ديوانه "القصيدة امرأة مستحيلة" بمفهومه – ربما – للشعر. يكتب أنور:

"ذوّبتُ ورد الشعر

في أكوابي،

وحملتهُ عطراً إلى الأحبابِ.

كم غيّرتْ كتبٌ

مفاهيم الهوى،

وأنا

كتابُ الحبّ ظلّ كتابي." (ص 11)

أكثر من ذلك:

"إنني أمطرُ حبّاً... مثلما

تمطرُ الضوءَ سماءٌ صافية." (ص 135)

وكما عند شعراء الحب بعامة، المرأة للراحل أنور هي أجمل ما كتبه على جدار حياته. يقول:

"عيناكِ أجملُ لوحةٍ لجداري

كم فيهما سفرٌ وموجُ بحارِ.

وأنا...

يضيّعني سرابُ مرافئي،

وتديرُ أشرعتي يدُ الأقدارِ!

عيناكِ...

ضوؤُهما مداد قصيدةٍ

تأتيكِ حاملةً رؤى أفكاري....

قصصُ الهوى والحبّ

    قبلك... كلّها

قد أصبحت خبراً من الأخبارِ.

وبقيتِ وحدكِ قصةً...

            خبأتها

في علبة الأحلامِ والأسرار."

                         (المصدر نفسه، ص 15)"

ويختم أنور قصيدته تلك على نحو شخصي \ شاعري جميل، يقول:

"ما همّ - قَبْلكِ – من تكون حبيبتي،

ما دُمتِ أنتِ نهايةَ المشوارِ!"  

لا شعر، على الأرجح، من دون المرأة – كائناً من كانت. هوذا ’قانون’ الشعر، منذ أشعار الحقبة الجاهلية في تاريخ أدبنا وإلى منتهى تجديدات الحداثة وتجريبيتها، وإلى الحد الذي باتت فيه القصيدة امرأة، وحتى مستحيلة(!)، على ما ينبئنا عنوان ديوان الشاعر الراحل أنور سلمان.

لكن المرأة للحبيب أنور ليست مملوكة، مستعبدة، خاضعة، رقيقاً؛ ليست جارية. باختصار، ومباشرة، وعلى طريقته، أنور مع حرية المرأة؛ بل هو يحرر المرأة – بقصيدته. يقول، ولعله بعض أجمل ما كتب في المرأة:

"فإذا أهديتُ شعري امرأةً،

أصبحتْ سيّدةً... لا جاريةْ." (ص 135)

                                  5

أكتفي، لدواعي المناسبة، بالإلماحات المختصرة التي أوردتها، وربما أعود إليها تفصيلاً في مناسبة متخصصة لاحقة.

وأختمُ بالقول أن أنور سلمان، الصديق الوفيّ الكبير الذي غادرنا سريعاً قبل نحو من عام، شاعرٌ مباشر ولكن على غنى داخلي هائل، شاعر رقيق على كثافة فكرية واضحة، شاعر رومانسي ومن دون أن تُغرق شعرَه أو تخنُقه خفقاتُ القلب وخلجات العاطفة، شاعرٌ وطني بامتياز لوطنٍ هو غير حدود الجغرافيا ولُقى التاريخ، وطنٌ رأى أنور أن جنانه المنتشرة في بقاع الوطن كافة تليق بالروح والآلهة أي بالإنسان في حقيقته.....

ولكن ما العمل وقد تحوّل فردوسُ بلادنا، بل والشرقُ كلّه - المقدّس، الملوّن، الشجي، المحب، المسالم - جزيرة للعنف والكراهية، وللشياطين ذوي اللون الواحد، والرأي الواحد، والمذهب الواحد، والاجتهاد الواحد. وطنُ أنور سلمان ليس كذلك.

                                                                انتهى

                                                     الشويفات، 25\2\2017